فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} [الأنفال: 5] وقال في آية أخرى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 40] وقال في آية أخرى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} [التوبة: 82] ثم قال في آية أخرى {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] وقال في آية أخرى {وَمَا رَمَيْتَ إِذَا رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 7] قال الجبائي: أما كونه تعالى مسيرًا لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك.
وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى الله تعالى على التوسع.
فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله، وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه.
وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث إنه تعالى سخر لهم المركب في البر، وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها، لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير.
وقال القفال: {هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ في البر والبحر} أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلبًا للمعاش لكم، وهو المسير لكم، لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير.
هذا جملة ما قيل في الجواب عنه.
ونحن نقول: لا شك أن المسير في البحر هو الله تعالى، لأن الله تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة.
فنقول: وجب أيضًا أن يكون مسيرًا لهم في البر بهذا التفسير، إذ لو كان مسيرًا لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازًا بهذا الوجه، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازًا دفعة واحدة، وذلك باطل.
واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازًا بالنسبة إلى المعنى الواحد.
وأما أبو هاشم فإنه يقول: إن ذلك ممتنع، إلا أنه يقول: لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين.
واعلم أن قول الجبائي: قد أبطلناه في أصول الفقه، وقول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضًا بعيد.
لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله، فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلًا.
واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر؟
والجواب: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا.
السؤال الثاني: ما جواب {إِذَا} في قوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك}.
الجواب: هو أن جوابها هو قوله: {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ثم قال صاحب الكشاف:
وأما قوله: {دَّعَوَا الله} فهو بدل من {ظنوا} لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك.
وقال بعض الأفاضل لو حمل قوله: {دَّعَوَا الله} على الاستئناف.
كان أوضح، كأنه لما قيل: {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} قال قائل فما صنعوا؟ فقيل: {دَّعَوَا الله}.
السؤال الثالث: ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟
الجواب فيه وجوه: الأول: قال صاحب الكشاف: المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها، ويستدعى منهم مزيد الإنكار والتقبيح.
الثاني: قال أبو علي الجبائي: إن مخاطبته تعالى لعباده، هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب.
وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب.
الثالث: وهو الذي خطر بالبال في الحال، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام.
وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة، يدل على المقت والتبعيد.
أما الأول: فكما في سورة الفاتحة، فإن قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 2، 3] كله مقام الغيبة، ثم انتقل منها إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب علو الدرجة، وكمال القرب من خدمة رب العالمين.
وأما الثاني: فكما في هذه الآية، لأن قوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك} خطاب الحضور، وقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} مقام الغيبة، فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة، وذلك يدل على المقت والتبعيد والطرد، وهو اللائق بحال هؤلاء، لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه.
السؤال الرابع: كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء؟
الجواب: أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة: أولها: الكون في الفلك، وثانيها: جَرْيُ الفلك بالريح الطيبة، وثالثها: فرحهم بها.
وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضًا: أولها: قوله: {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: الضمير في قوله: {جَاءتْهَا} عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع، فما السبب فيه؟
الجواب عنه من وجهين: الأول: أنا لا نسلم أن الضمير في قوله: {جَاءتْهَا} عائد إلى الفلك، بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} الثاني: لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ {الفلك} يصلح للواحد والجمع، فحسن الضميران.
السؤال الثاني: ما العاطف.
الجواب: قال القراء والزجاج: يقال ريح عاصف وعاصفة، وقد عصفت عصوفًا وأعصفت، فهي معصف ومعصفة.
قال الفراء: والألف لغة بني أسد، ومعنى عصفت الريح اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف سريعة، وإنما قيل {رِيحٌ عَاصِفٌ} لأنه يراد ذات عصوف كما قيل: لابن وتامر أو لأجل أن لفظ الريح مذكر.
أما القيد الثاني: فهو قوله: {وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ} والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر.
أما القيد الثالث: فهو قوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك، وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد، فقد دنوا من الهلاك.
السؤال الخامس: ما المراد من الإخلاص في قوله: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}.
والجواب: قال ابن عباس: يريد تركوا الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئًا، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية.
قال الحسن: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ} الإخلاص الإيمان، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى، فيكون جاريًا مجرى الإيمان الاضطراري.
وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله.
وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم.
السؤال السادس: ما الشيء المشارإليه بقوله: {هذه} في قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه}؟
والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة، وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها، إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها.
السؤال السابع: هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار؟
الجواب: نعم، والتقدير: دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا، ويمكن أن يقال: لا حاجة إلا الإضمار، لأن قوله: {دَّعَوَا الله} يصير مفسرًا بقوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: {فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}:

فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَرَّ هُوَ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَالْبَحْرَ هُوَ الْمَاءُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْبَرَّ الْفَيَافِي، وَالْبَحْرَ الْأَمْصَارُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَسَبِ مَا يَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ مُقَدَّمٍ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}.
فَهَذَا نَصٌّ بَيِّنٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرِ غَمْرَةُ الْمَاءِ، وَقَرِينَتُهَا الْمُبَيِّنَةُ لَهَا قَوْلُهُ: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ}، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}، فَقَوْلُهُ: {مِنْ الْفُلْكِ} هُوَ لِلْبَحْرِ، وَقَوْلُهُ: {الْأَنْعَامِ} هُوَ لِلْبَرِّ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: [في قراءة قوله: {يُسَيِّرُكُمْ}]:

قُرِئَ {يُسَيِّرُكُمْ} بِالْيَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَ{نَنْشُرُكُمْ} بِالنُّونِ وَالشَّيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَرَادَ الْيَحْصُبِيُّ يَبْسُطُكُمْ بَرًّا وَبَحْرًا، وَأَرَادَ غَيْرَهُ مِنْ السَّيْرِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: [في جواز ركوب البحر]:

فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ قَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَنَامَ عِنْدَهَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ».
قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُضْحِكُك؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى».
قَالَتْ، فَقُلْت: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ...» الْحَدِيثَ.
فَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ بِهِ وَسَطَ الْأَرْضِ، فَانْفَلَقَتْ، وَجَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْعُدْوَتَيْنِ، وَقَسَّمَ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، وَلَا يُوصَلُ إلَى جَلْبِهَا إلَّا بِشَقِّ الْبَحْرِ لَهَا، فَسَهَّلَ اللَّهُ سَبِيلَهُ بِالْفُلْكِ، وَعَلَّمَهَا نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِرَاثَةً فِي الْعَالَمِينَ بِمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَالَ لَهُ: صَوِّرْهَا عَلَى جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ، فَالسَّفِينَةُ طَائِرٌ مَقْلُوبٌ، وَالْمَاءُ فِي اسْتِفَالِهِ لِلسَّفِينَةِ نَظِيرُ الْهَوَاءِ فِي اعْتِلَائِهِ.

.المسألة الرَّابِعَةُ: [في أن القرآن الكريم يدل على جواز ركوب البحر مطلقًا]:

أَمَّا الْقُرْآنُ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ جَلَبْنَاهُمَا فَيَدُلُّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ فِي الْغَزْوِ، وَهِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَجَازَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ السَّلَامَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ لَا حَاصِرَ لَهُمْ، وَاَلَّذِينَ يَهْلِكُونَ فِيهِ مَحْصُورُونَ.

.المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ»:

فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: يَرْكَبُونَ ظَهْرَهُ عَلَى الْفُلْكِ رُكُوبَ الْمُلُوكِ الْأَسِرَّةَ عَلَى الْأَرْضِ.
الثَّانِي: يَرْكَبُونَ الْفُلْكَ لِسَعَةِ الْحَالِ وَالْمِلْكِ كَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمُلْكِ.
وَيُعَارِضُ هَذَا قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِالْمُلْكِ وَوَصَفَ اللَّهَ هَؤُلَاءِ بِالْمَسْكَنَةِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَرَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: إنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَّاكِينَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ.
وَقَالَ قَوْمٌ إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْمَسْكَنَةِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْبَحْرِ وَضَعْفِ الْحِيلَةِ فِيهِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ عِيَانًا فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَسْكَنَتَهُمْ كَانَتْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِدُخُولِهِمْ الْبَحْرَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ وَلَا مِلْكٌ إلَّا السَّفِينَةُ، وَهُمْ لَا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ بِالْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالْعَزْمِ وَالشِّدَّةِ، يَقْصِدُونَ الْغَلَبَةَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لِلْمُلْكِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، لِمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، إذْ لَمْ يَرَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا رَكِبَهُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْحَبَشَةِ لِلضَّرُورَةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي الْفِرَارِ مِنْ نِكَايَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْآخِرُ فَلِنَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَوْنِ مَعَهُ.

.المسألة السَّادِسَةُ: [في الاختلاف في حكم من ارتج به البحر وغلبه]:

إذَا حَصَلَ الْمَرْءُ فِي ارْتِجَاجِ الْبَحْرِ وَغَلَبَتِهِ وَعَصْفِهِ وَتَعَابُسِ أَمْوَاجِهِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ في البر والبحر} يعني: يحملكم في البر على الدواب وفي البحر في السفن، ويقال: هو الذي يحفظكم إذا سافرتم في بر أو بحر.
قرأ ابن عامر {يَنْشُرُكُمْ} بالنون والشين من النشر، يعني: يبثكم، والقراءة المعروفة {الذى يُسَيّرُكُمْ} من التسيير يعني: يسهل لكم السير، {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك}، يعني: في السفن، {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ}؛ يقال للسفينة الواحدة جَرَتْ وللجماعة جَرَيْنَ.
واسم الفلك يقع على الواحد وعلى الجماعة، ويكون مذكرًا إذا أريد به الواحد ومؤنثًا إذا أريد به الجماعة، كقوله: {وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الفلك المشحون} [يس: 41] وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِى في البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السماء والأرض لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] ذكرا بلفظ التأنيث مرة وبلفظ التذكير مرة.
وفيه الدليل أن الكلام يكون بعضه على وجه المخاطبة وبعضه على وجه المغايبة، كما قال هاهنا {حتى إِذَا كُنتُمْ في الفلك} بلفظ المخاطبة ثم قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم} بلفظ المغايبة بِرِيحٍ {طَيّبَةً}، يعني: لينة ساكنة، {وَفَرِحُواْ بِهَا وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا} يعني: السفينة، {رِيحٌ عَاصِفٌ}؛ يعني: شديدة، {وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ}؛ يعني: من كل النواحي {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}، يعني: علموا وأيقنوا أنه قد دنا هلاكهم.
وقال القتبي: وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بالقرية، يقال: دنا القوم من الهلكة، قال الله تعالى: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} [الكهف: 42] فصار ذلك كناية عن الهلاك؛ {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}، يعني: أخلصوا لله تعالى، يعني: الدعاء وقالوا: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه}، يعني: من هذه الريح العاصف، ويقال: من هذه الأهوال، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين}؛ يعني: الموحدين المطيعين. اهـ.